إشكالية القراءة
يفسر المنهج الاجتماعي النص الأدبي بالتركيز على على شروط إنتاجه الاجتماعية. والمنهج البنيوي التكويني يركز على استخلاص البنية الدالة، وتفسير تفاعلها مع البنية الذهنية للجماعة التي ينتمي إليها المبدع أو يمثل رؤيتها للعالم؛ فالمبدع عنصر وسيط بين البنيتين، لأنه لا يعبر عن رؤيته الخاصة، وإنما يشخص رؤية جماعية ممكنة. وهكذا فالنقد الاجتماعي ينظر إلى العلاقة بين الواقع والعمل الإبداعي أو الثقافي نظرة جدلية وليست آلية أو مرآوية انعكاسية ؛ ذلك أن الوسط الاجتماعي حين يفرز علاقات اجتماعية معينة فإن هذه بدورها تولد بنية خاصة بها، فيقوم الرواد من المبدعين بتمثلها في أعمالهم الإبداعية في شكل بنية منسجمة ودالة. كما أن أي تحول يحدث في البنية التحتية للمجتمع إلا وتتولد عنه بشكل جدلي بنيات فوقية موازية لها، وهكذا إلى ما لانهاية.
عكف على تطبق هذا المنهج كثير من النقاد في المشرق والمغرب بطرائق مختلفة، منهم نجيب العوفي، من مواليد الناضور 1948، درس بتطوان وفاس والرباط، مجاز في الأدب 1970، وفي الحقوق 1975، حصل على د.د.ع 1985 ). من أعماله : درجة الوعي في الكتابة جدل القراءة مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية مساءلة الحداثة ) والنص الذي بين أيدينا مقتبس من كتابه ( ظواهر نصية). فما القضية مدار النص ؟ وما المفاهيم المؤطرة لها ؟ وكيف وظف الكاتب المنهج الاجتماعي (البنيوي التكويني) لإضاءتها ؟ وما الإطار المرجعي الذي استند إليه ؟ وما مظاهر اتساقه وانسجامه ؟
يوحي العنوان بدراسة القصيدة العربية في علاقتها بالخلفية الاجتماعية والتاريخية والسياسية.. ودراسة مدى تماثل بنياتها مع بنيات المجتمع. وبمقارنة بداية النص مع نهايته نلاحظ الفرق بين وضعية الشاعر في الجاهلية، حيث كان جهازا إعلاميا وثقافيا، وموقعه في العصر الحديث حيث أصبح المجتمع العربي يعيش إشكالات معقدة، يناقض ظاهرُه باطنَه.
وبملاحظة هذه المشيرات النضية: لسان الجماعة، الأنا الجمعي، البنية السوسيو – ثقافية، البنية الذهنية العميقة.. يتبين أنها مفاهيم تنتمي إلى علم اجتماع الأدب، ونفترض أن القضية المطروحة في النص هي رصد تطور القصيدة العربية منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث. فإلى أي حد وُفِّقَ الناقد في تطويع تلك المفاهيم لقراءة القصيدة الشعرية بها.
الفهم
القصيدة الجاهلية صورة صادقة لبنية المجتمع الجاهلي، فهي تتضمن أصوات الجماعة / القبلية، وإيقاعها خطابي، والجمهور حاضر في اعتبار الشاعر، وهي تحمل هواجس الذات الجماعية. وفي العصر الإسلامي تأثر الشعر مضمونا وشكلا ووظيفة بدعوة الإسلام التي تقوم على مفهوم الأمة بدل القبيلة. وفي العصر الأموي استعاد الشعر صدقه وذاكرته وعقله الباطن.. واستيقظ الأنا القبلي، ونتج عن ذلك مفارقة وتناقض بين البنية السطحية للمجتمع والدولة (بنية مدنية متحضرة)، والبنية الذهنية العميقة لهما (بنية رعوية وقبلية). وظل الشاعر، على مدى الدولتين الأموية والعباسية، موظفا رسميا انتهازيا، فابتعد عن المجتمع، وفقد شعره قيمته الإنسانية الحقة، وإن ظل محافظا على قيمته الفنية والأدبية.
البنية السوسيو ثقافية تشكلت صيغتُها النهائية منذ العصر الأموي، فصعُب على محاولة التجديد كسر عمود الشعر، الذي لم تتخلخل بنيته إلا مع الحملة الاستعمارية التي حطمت العمود السياسي القديم بأمجاده وانتكاساته، وتفتت الكيان التاريخي والحضاري إلى فسيفساء سوريالي، فتغيرت بذلك بنية القصيدة الحديثة التي انفتحت بتشكيلها العروضي وهندستها المعمارية المفتوحة على الاحتمالات والمفاجآت، وتغيرت أغراضها، وأصبحت تعيش في عصر ومجتمع إشكاليين، يتناقض ظاهره وباطنه.
الكاتب يعالج إذن، قضية أدبية اجتماعية هي تفسير تاريخ القصيدة العربية وتطورها، وذلك بربط بنيتها الدالة بالبنية الذهنية للمجتمع. إنه يفسر أكثر مما يصف.
التحليل
المفاهيم والقضايا
- الحقل التاريخي: الجاهلية، منتصف ق السادس الميلادي، دولة، الدعوة الإسلامية، الدولة الأموية.
- الحقل الاجتماعي: أوتوقراطي، الإمبريالية، السياسي، عصر إشكالي، المجتمع والدولة، بنية رعوية وقبلية لسان الجماعة، أصوات الجماعة، أنا القبيلة، الأنا الجمعي، القيم المهجنة، (الفروسية، الدعوية) مدني، الأنا القبلي..
- الحقل الأدبي: شعر غنائي وذاتي، إيقاع خطابي، الرسالة الشعرية، الشعر الكلاسيكي، الخيال، الملفوظ الشعري، التكسب، العمود الشعري، القصيدة الحديثة..
نلاحظ هيمنة مصطلحات الحقلين التاريخي والاجتماعي، والعلاقة بين هذه المصطلحات سببية؛ لأنها تفسر الظاهرة الأدبية (القصيدة العربية) بالعوامل التاريخية والاجتماعية.
خطوات تطبيق المنهج الاجتماعي ومعالمه
تبدو معالم المنهج البنيوي التكويني في الخطوات التي سلكها الكاتب حيث حقب الزمان إلى حقب تاريخية (الجاهلية الإسلامية الأموية والعباسية والحديثة)، ثم حدد البنية الاجتماعية لكل حقبة وبنيتها الذهنية (القبلية الأمة القبلية الرعوية العمود السياسي الراسخ بنية متحللة مع الإمبريالية الاستعمارية)، بعد ذلك حدد البنية الشعرية مضمونا وشكلا (بنية شعرية متماسكة / عمود الشعر بنية فسيفسائية ذات هندسة معمارية مفتوحة على الاحتمالات والمفاجآت متغيرة الوظيفة والبناء).
لقد فسر الكاتب شكل القصيدة وبناءها بربطه بالبنية الاجتماعية والبنية الذهنية معا، إذ ربط بين العوامل السوسيو ثقافية المنبثقة عن طبيعة المجتمع، وما تُفرزه من بنى ذهنية لها تجليات في البناء الثقافي والسياسي، وبين بنية القصيدة ذات البناء المحكم (عمود الشعر..) والبناء المتغير (تكسير البنية الإيقاعية للقصيدة العربية).
وقد اعتمد الكاتب في معالجة موضوع سوسيولوجية القصيدة العربية عمليتي الفهم والتفسير : يتجلى الفهم في كشف الكاتب عن التماسك الباطني للقصيدة العربية، وبحثه في داخل هذا التماسك عن بنيته الداخلية الشاملة ذات دلالة (عمود الشعر)، ثم حاول تفسير تلك البنية والمتعلقة بالذات الفردية و/ أو الجماعية التي تكون تلك البنية الذهنية المنظمة للنتاج الأدبي، بالنسبة إليها، طابعا وظيفيا ذات دلالة. فنظر (بالتفسير) إلى الشعر العربي في مستوى خارجي لربطه ببنية أوسع وأشمل.
من تم فبنية الشعر العربي نظيرة للبنية الذهنية للفئة الاجتماعية التي يعيد الشاعر تركيبها (تكوينها) في عمله، وإقامة الموازاة بين الرؤيا التي تحكم بنية الشعر العربي من جهة، وبين المجال الثقافي الذي ينتمي إليه الشاعر من جهة ثانية.
الإطار المرجعي
استند الكاتب في عرضه لإشكالية النص والقضايا المتفرعة عنها إلى عدة مرجعيات منها :
الماركسية
تنظر إلى الأدب كجزء من البنى الفوقية التي تعكس البنى التحتية، إنه انعكاس آلي لها. إن هناك جدلية بين الوعي والواقع، أي أن المبدع يعبر عن التحولات التي يعرفها المجتمع في إطار الصراع الطبقي، ولذلك فإن لكل إنتاج بنيات تدل على نوع التحولات التي تحدث في واقع يندثر وآخر يتكون.
النظرية الوضعية
ترى أن الواقع سابق عن الوعي، أي أن تجربة المبدع هي التي تنتج أدبه، وأن واقعه مستقل وموضوعي، ويبقى على الناقد، أثناء تناوله للنص أو لظاهرة أدبية معينة، أن يستند إلى تأثرها بالوسط الاجتماعي. فالفرد مجرد وسيط بين النص والجماعة التي ينتمي إليها، يعبر عن صراعاتها وعن تاريخها وقيمها ورؤيتها للعالم.
وقد أثار هذا الموقف إشكالات نقدية تتصل بالعلاقة بين الذات والموضوع، وبين الفرد والجماعة، إلى جانب مبدأ الالتزام الذي يدفع المبدع إلى الانخراط في قضايا المجتمع والالتزام بمبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية..
علم اجتماع الأدب
يؤكد على ارتباط الأدب بالمجتمع، فهو انعكاس جدلي له من حيث أوضاعه وطموحات أبنائه وقضاياهم. لقد أكد لوسيان كولدمان على أن التماثل بين البنى الاجتماعية والبنى الفكرية يتم على مستوى الهياكل فيما يشبه التناظر بين الهياكل الأدبية والهياكل الاجتماعية.
البنيوية التوليدية
استمدت هذه القراءة مفاهيمها من المعرفة اللسانية بفروعها المختلفة (سوسير، الشكلانيون الروس، حلقة براغ، البنيوية)، والتي تتميز بدراسة اللغة في ذاتها باعتبارها نسقا ونظاما عناصره الأساسية هي : الصوت، المعجم، الصرف، التركيب، والدلالة، وكذا باعتبارها أداة للتواصل ؛ واستخراج البنية المنظمة لهذه العلاقات..
علم التاريخ
التاريخ خاضع لقوانين تفسر تطوره وحركيته..
النقد الفني/ الانطباعي / التأثري
يركز على تناول الجوانب الفنية، والمنهج التأثري الذي يركز على انطباعات الناقد، وعلى التأثير الفني الذي تخلفه القصة على القارئ.
طرائق العرض
وظف الكاتب بعض أساليب التفسير، والتي منها :
- التعريف: تعريف القصيدة العربية وتحديد خصائصها ووظيفتها من خلال دور الشاعر على مر حقب التاريخ العربي الإسلامي.
- الوصف: وصف مكونات ومميزات القصيدة العربية، وكذا مظاهر التشكيل المجتمعي العربي بدأ من الجاهلية مرورا بالدولة الأموية والعباسية، وصولا إلى المرحلة الإمبريالية.
- السرد: سرد مراحل تطور المجتمع العربي وإيقاعاته المتباينة، وتعاقب العصور الأدبية الجاهلية والأموية والعباسية والحديثة، وكذا سرد مظاهر التحولات التي عرفها المجتمع العربي في بنياته المختلفة..
- المقارنة: ويتجلى في تفسير بنية القصيدة العربية تفسيرا سوسيولوجيا مقابل التفسير السيكولوجي، أو الوصف البنيوي. كما يتجلى في المقارنة بين مراحل تطور القصيدة العربية عبر مختلف العصور.
والغرض من استعمال أساليب التفسير هذه هو الإقناع بارتباط تطور القصيدة العربية في موضوعها وبنيتها ووظيفتها بأوضاع وبنية المجتمع العربي من الجاهلية إلى العصر الحديث ووظيفتها. هذا إضافة إلى التنظيم المحكم للمعلومات، بحيث تظهر كلها مثل وحدة متماسكة، فيبدو الموضوع كله وكأنه حركة واحدة تُقدم عبر مراحل، فيتحقق الإقناع بطرح الكاتب.
كما اعتمد الكاتب تصميما زمنيا يقوم على التدرج، حيث عرض مراحل التطور الكرونولوجي العربية لإبراز بنيتها وموضوعاتها ووظيفتها. ولعل دور هذا التصميم في بناء الموضوع هو خلق التماسك والانسجام في نص يتناول موضوع سوسيولوجية القصيدة العربية، بلغة النقدية ذات مقصدية مباشرة يهيمن فيها ضمير الغائب العائد على القصيدة وعناصرها الفنية، والعصور التاريخية.
مظاهر اتساق النص
نص نجيب العوفي خطاب متجانس الوحدات، فهو ينبني على عدد من العلاقات والروابط بين الجمل والفقرات من خلال وسائل لغوية وشكلية حقق بها وجوده النصي وبعده التداولي والأسلوبي، ومن خلال تواتر آليات الاتساق، التي من بين مظاهرها توظيف بنيات جملية متنوعة: مركبة وبسيطة ” يبدو الجمهور حاضرا باستمرار في ذاكرة الشاعر”.طويلة وقصيرة، حسب ما يقتضيه مقام الشرح، والربط بين الجمل مثنويا : ” فالقبيلة تتحدث بلسان الشاعر والشاعر يتحدث بلسان القبيلة ”، وجمعيا : ” لا تعرف الامتثال والانقياد، ولا ترضى بأنصاف الحلول ”. والربط بالحمول الموصولية : ” قيم الفروسية الرعوية المتغطرسة التي لا تعرف الامتثال والانقياد، ولا ترضى بأنصاف الحلول “، والإحالة المقامية : ” الكمبيوتر الساعة الرملية ”، وهما عنصران خارج النص، والإحالة النصية : ” أيهما يتحدث هنا أنا الشاعر أم أنا القبيلة ؟ ” كعلاقة دلالية، تستوجب تطابق الخصائص الدلالية بين العنصر المحيل، والعنصر المحال عليه.
إن وظيفة الربط والإحالة في النص تتمثل في أنهما يحققان الاقتصاد اللغوي، وهو مطلوب يُجنب اللغة التكرار والرتابة، ويضمنان التماسك الشديد لأجزاء النص. وتنويع الضمائر وأسماء الإشارة التي تنظم فضاء النص،وتساعد على التعيين …
هذا على مستوى البنيات الصغرى، أما على مستوى البنيات الكبرى، فاتساق النص يظهر في التعالق الدلالي، إذ ترتبط فقرات النص في ما بينها ترابطا دلاليا واضحا، يتحكَّم في نوع العلاقات القائمة بينها، وفي نوع الروابط الموظفة. و يتم وفق معايير الربط بين الأفكار والفقرات، التي منها معيار العلاقات المنطقية والتركيبية والمعنوية، ومعيار السببية التي استدعت أدوات التعليل والاستنتاج والتفسير والإثبات والنفي.. الخ ن ومعيار التسلسل بتوظيف الصيغ الدالة على التسلسل / التتابع الزمني، أو التدرج بين الأفكار، مثل استعمال الصيغ الدالة على الابتداء (في المرحلة الأولى ؛ في منتصف القرن السادس الميلادي ؛ مع نشوء الدولة الأموية …)، والإضافة والمقارنة : (وما دام … فأصوات ؛ فعلى الرغم … إلا أن ؛ وإذا كانت … فإن القصيدة …)، والانتهاء : (وهكذا أصيب الشعر …).
من جهة أخرى يتجلى تماسك النص من خلال ترتيب الوحدات المكونة له حسب نوعية العلاقات القائمة بينها، من ذلك اعتماد طريق التعارض بين موقف الالتحام بين الشاعر والقبيلة في العصر الجاهلي، ودور الإسلام في القضاء على العصبية القبلية، وإبراز بنية ذهنية جديدة، وطريق الشرح والتفسير والتعليل في سيرورة استدلالية تتدرج من الانتقال من المعطيات النصية إلى المعطيات الخارج نصية، واعتماد منطق التدرج التاريخي في عرض مراحل تطور بنية القصيدة العربية وبنية ذهنية المجتمع، وتكرار بعض الألفاظ والمفاهيم الاجتماعية والأدبية الدالة على الخطاب، والتي توثق لحمته ونسيجه (القصيدة المرحلة الأنا الجمعي العمود البنية …)، وتوظيف الألفاظ و العبارات ذات الصلة بالحقل الدلالي التاريخي : (الجاهلية، منتصف القرن السادس الميلادي، دولة،الدولة الأموية، أوتوقراطي، الإمبريالية، السياسي)؛ والحقل الاجتماعي (لسان الجماعة، أصوات الجماعة، أنا القبيلة، الأنا الجمعي)؛ والحقل الأدبي (شعر غنائي وذاتي، إيقاع خطابي، الرسالة الشعرية، الخيال، الملفوظ الشعري)، والأسلوب الخبري المؤكد ” لقد تحطم العمود السياسي القديم…”، وغير المؤكد ” تفتت الكيان الحضاري والتاريخي “، وذلك بهدف الإقناع بنوعية القراءة ومصداقيتها.
مظاهر انسجام النص
يتضمن النص مجموعة من الآليات الظاهرة والخفية التي تجعل متلقيه قادرا على فهمه وتأويله، وذلك اعتمادا على مجموعة من المبادئ والعمليات، نبينها كالتالي :
مبادئ انسجام النص
1) السياق وخصائصه :
هو الذي يحدد خطاب النص، ويشمل عناصر العملية التواصلية من :
- المرسل : هو الكاتب المغربي نجيب العوفي..
- المتلقي : يشمل نقاد القصيدة العربية، وقراءها، والقارئ بصفة عامة. فالأمر يتعلق بمعرفة عملية القراءة وبظروف تلقي النص وبنوع المخاطَب وطبيعته وثقافته، والظروف العامة والخاصة التي تصاحب قراءته،
- شكل القناة ونوعها : نص نقدي…
- موضوع الرسالة : وهو علاقة القصيدة الشعرية العربي بالبنيات الذهنية للمجتمع العربي في مختلف مراحل تطوره التاريخية.
- المقصدية : تأكيد الكاتب أطروحته والتي هي معرفة التغييرات الطارئة على القصيدة العربية منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث.
2) معرفة السياق :
السياق العام والخاص: السياق الذي ورد فيه النص هو تأثر النقد العربي الحديث بعد الحرب العالمية الثانية بمناهج النقد المستمدة من مرجعيات معرفية ومنهجية غربية متنوعة، وخاصة المنهج الاجتماعي الذي ظهر في الغرب في أواخر القرن 19 ولا يزال يتطور إلى يومنا هذا، وقد اقتبسه النقاد العرب في بداية القرن 20 ليطبقوه على الأدب العربي، ومنهم المغاربة.
3) مبدأ التأويل المحلي :
يوضح الكاتب السياق المدروس، ويقيد الطاقة التأويلية للمتلقي فيحصرها في دراسة القصيدة الشعرية العربية من الجاهلية إلى العصر الحديث، مع التركيز على دراسة التماثل بين بنيتها وبنية المجتمع. ويظهر ذلك في قول الناقد : ” كان الشاعر العربي، خاصة في المراحل الأولى … ” ؛ ” لكن القصيدة العربية في اللحظة التاريخية الراهنة..”.
فهذه العبارات النصية تجعلنا نعتمد على خصائص السياق، ونستحضر معطيات ومعلومات مخصوصة، أي تلك المعلومات الملائمة لهذه الفترة دون غيرها. وبهذا الفعل القرائي تتقيد طاقتنا التأويلية، ويتحقق فهمنا للنص.
4) مبدأ التشابه :
ويتعلق باستحضار نماذج مماثلة في فهم الخطاب وتأويله، فما توصل إليه نجيب العوفي لا يختلف كثيرا عما توصل إليه حسين الواد وأدونيس. ولهذا تجد نفسك مضطرا لاستحضار معارفك حول “التفسير الاجتماعي للقصيدة العربية” خاصة تلك التي تماثل هذا الاتجاه النقدي. إذ يقوم القارئ بتعميم التجارب والمواقف المشابهة في عملية الفهم والتأويل على نصوص ومواقف أخرى.
5) التغريض / التيمة :
في النص مركز جذب يؤسس منطلقه وتحوم حوله بقية أجزائه. فالقصيدة العربية هي نقطة التمركز الجامعة للنص / الخطاب، والتي يتمحور حولها، فكأن الموضوع العام الذي نكون بصدد التفكير فيه، ونحن نقرأ هذا النص. فتلك التيمة تتحكم في تأويل الخطاب.
عمليات انسجام النص
القارئ لا يواجه خطابا ما إلا انطلاقا من معارف سابقة استقاها خلال قراءته للنصوص والتجارب التي عاينها. هذه المعرفة المخزنة المتجسدة في تمثيلات ذهنية، والتي تمكن من رصد آليات التفكير الإنسانية، وكيفية اشتغال الذهن البشري، تمثل في جوهرها مجمل عمليات الانسجام. وهي المعرفة الخلفية: بما فيها من أطر ومدونات وسيناريوهات وخطاطات هي من آليات توالد النص التي استفادها هذا المنهج من نظرية الذكاء الاصطناعي … وتعني إجمالا، أن الكاتب أو المتلقي يعتمد في كتابه أو تلقيه على معرفة سابقة مختزنة في الذاكرة، يثير منها، عند الضرورة، بعض العناصر يعبر بها عما يصادفه، أو يفك بها شفرة ما يقرأه. كما أن تلك المعرفة الخلفية وما تولده من أفق انتظار هي التي تساعد على بناء الأطر إلحاقا للنظير بالنظير. فنص العوفي، كخطاب، وإن كان لا يملك في ذاته مقومات انسجامه، فإننا، كقراء، نسند إليه هذه المقومات والعلاقات الخفية التي تنظمه وتولده، إنه قابل للفهم والتأويل. وقد تحققنا من هذا الافتراض لتضمن النص مبادئ وعمليات حققت له انسجامه.
التركيب والتقويم
قصد الكاتب إلى إثبات أطروحة معينة لقراءة تاريخ الشعر العربي، تتجلى في التأكيد على ارتباط القصيدة العربية بتطور البنيات الاجتماعية والذهنية للمجتمع العربي، بدأ من المجتمع القبلي في الجاهلية، حيث الأنا الجمعي، مرورا بمجتمع الأمة الإسلامية، وصولا إلى المجتمع الحديث الذي تصدعت فيه البنية السوسيو ثقافية التقليدية، وتحطم عمود الشعر، وحل محله البناء الفسيفسائي للقصيدة والمجتمع الإشكالي المتعدد التوجهات. وقد استند الكاتب إلى مقاربات علم التاريخ والفلسفة الماركسية والوضعية والبنيوية التوليدية وعلم اجتماع الأدب الذي يبحث في أشكال التناظر بين البنيات الذهنية للمجتمع وبنية القصيدة في علاقة جدلية تقوم على ثنائية البناء والهدم في المجتمع والنص على السواء.
وقد أضاء الكاتب هذه القضية المطروحة بوسائل الحجاج المنطقي واللغوي، فسلك مسارا استدلاليا يقوم على التدرج، ويتوخى الإقناع بأطروحته، وكذا اللغة الاصطلاحية المستمدة من حقول معرفية عديدة. وبذلك يصح الافتراض الذي انطلقنا منه في مستهل قراءتنا للنص.
للمنهج الاجتماعي إمكانات عديدة، منها ما يتعلق بإنارة البعد الاجتماعي وتشكلات البنيات الذهنية للمجتمع في بنية النص. وله بالمقابل، حدودا لا يستطيع تجاوزها، جعلته محط انتقاد من طرف النقاد، فهو لا يبحث في البعد السيكولوجي، أو يقتصر على الجانب البنيوي المحض للنص، باعتبار هذا الأخير بنية منفتحة على محيطها وسياقاتها الخارجية.
تعليقات