تقـديـــم :
يشير مفهوم " الوضع البشري" إلى مختلف الشروط و المحددات التي يتأطر ضمنها وجود الإنسان ومصيره، أي العوامل التي تتدخل في تحديد طبيعة هذا الوجود وتسمح بفهم أو معرفة حقيقة الكائن البشري ...فالإنسان ،وإن كان في جانب منه يتحدد ككائن طبيعي ، يمثل بالأساس ذاتا متميزة عن الكائنات الأخرى بفضل ما يتوفر عليه من مقومات فوق طبيعية يعكسها بعده الفكري والأخلاقي . وهذا التكوين الإزدواجي المعقد يجعل وجود الإنسان مرهونا بسلسلة من الضرورات أو الحتميات التي قد تكبل إرادته ، لكن الإنسان يظل قادرا على الإنفلات من قبضة الضرورة وتحقيق التباعد أو التعالي عن الشروط الموضوعية لوجوده (مفهوم الشخص)...ومن المؤكد أن النظرة إلى الإنسان لا تكتمل إلا بمراعاة بعده العلائقي أو الإجتماعي . فهو لم يوجد ليعيش وحيدا، ولا يتحدد كذات معزولة عن الآخرين، بل يدخل مع غيره في علاقات متنوعة يستلزمها العيش ضمن المجموعة البشرية ، علاقات قد تتسم بالتكامل عندما يكون الغير مكملا لوجود الأنا ومدعما له، أو بالتعارض والتنافر حين يصير الغير مهددا لوجود الأنا وسالبا لمقوماته (مفهوم الغير)...واخيرا، فالإنسان ذو بعد زمني يتجلى في ارتباطه بالأوضاع التاريخية وتفاعله مع التغيرات الزمنية مما يجعل منه سيرورة زمنية ذات طابع فردي أو جماعي ، وهو ما يعني أن التاريخ يمثل محددا أساسيا في بلورة الوجود الإنساني (مفهوم التاريخ ).
هكذا، فبالنظر إلى تعدد و اختلاف المستويات التي تحكم الوجود الإنساني، فإن التفكير في مفهوم الوضع البشري يقتضي استحضار عدة مفاهيم تشكل المقومات أو العناصر الأساسية التي يتأطر ضمنها ..
فكيف تتحدد مفاهيم الشخص والغير والتاريخ باعتبارها مكونات أساسية للوضع البشري ؟
مفهـــوم الشخــص
حول المفهوم:
1 - يرتد لفظ الشخص في اللغة العربية إلى فعل "شخص" الذي يحيل على معاني الظهور والبروز والعظمة كما يشير إلى ذلك معجم "لسان العرب" : " الشخص سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد..والشخص كل جسم له ارتفاع وظهور، والمراد إثبات الذات "...والملاحظ هو أن هذا التحديد لا يقيم تمييزا دقيقا بين الإنسان وباقي الكائنات ما دام يجعل من الشخص كل ما أمكن رؤيته من بعيد أو كل جسم له ارتفاع يسمح له بالبروز.
في الفرنسية ترجع كلمةPersonne إلى اللفظة اللاتينية Persona التي تعني القناع الذي يضعه الممثل على وجهه لكي يتقمص الدور المسند إليه في المسرحية..ومن ثم يغلب على الشخص معنى الظاهري والرمزي والمتخيل، ويتقابل بذلك مع الباطني والحقيقي والواقعي.
2 - في المجال الفلسفي يتحدد مفهوم الشخص كذات عاقلة أو واعية وحرة ومسؤولة، أي يرتبط معناه بشكل أساسي بالإنسان بوصفه متميزا عن باقي الموجودات بما يختص به من وعي وإرادة ومسؤولية. وقد توجه الإهتمام منذ بدايات التفلسف عند اليونانيين إلى التفكير في ماهية الإنسان من خلال تحديد الخصائص التي أصبح الإنسان بفضلها متميزا عن باقي الكائنات الحية الأخرى، الأمر الذي سيجعل مفهوم الشخص يحمل طابعا ميتافيزيقيا لكونه يشير إلى المحددات الفوق طبيعية التي تميز الإنسان مستبعدا في نفس الوقت العناصر الطبيعية التي تخص الكائنات الأخرى....
وفي هذا السياق يبرز التصور الأفلاطوني القائم على ثنائية الجسد والنفس، حيث تمثل النفس بسبب طبيعتها اللامادية الثابتة والخالدة جوهرا للذات مقابل الجسد المادي الذي يعتريه التغير والزوال..كما أن "أرسطو" قد قدم تصورا لحقيقة الإنسان معتمدا معيار التمييز بين ما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان (تغذية – تنفس – تناسل...)، وبين ما يختص به الإنسان ويصلح بالنتيجة أساسا لتعريفه (العقل أو النطق) منتهيا إلى صيغته المشهورة بأن الإنسان "حيوان ناطق".
غير أن التصور اليوناني حول الإنسان لم يبلغ مستوى التفكير في كرامة و قيمة الإنسان في ذاته و بغض النظر عن مكانته الاجتماعية و السياسية. ومرد ذلك إلى الموقف الإقصائي للثقافة اليونانية تجاه الأجانب و العبيد كفئة لا تتمتع بحقوق مدنية، مقارنة مع المواطن اليوناني. ومن ثم لم يكن غريبا أن نصادف عند فلاسفة اليونان مواقف لا تخلو من نزعة النبذ والإحتقار تجاه الأجنبي والعبد والمرأة.
أما في العصور الحديثة ،والتي تميزت بصحوة فلسفية مثلتها فلسفة الأنوار، فسنجد أن مفهوم الإنسان باعتباره شخصا يتوفر على وعي و إرادة و حرية و مسؤولية في ذاته قد بدأ في التبلور بداية مع الفلسفة الديكارتية قبل أن تكتمل هذه النظرة مع فلسفة "كانط" في القرن الثامن عشر.... ففي سياق التصور الديكارتي القائم على الشك المنهجي و معيار البداهة و الوضوح العقليين، ستظهر فكرة الإنسان العاقل الذي يستطيع بلوغ معرفة يقينية استنادا إلى عقله فقط ودون الخضوع لوصاية خارجية. ففكرة "الكوجيطو" تنطوي على اعتبار الإنسان كائنا جوهره التفكير و الوعي، الشيء الذي يضفي عليه مكانة تتمثل في حريته أو استقلاله بذاته و تشكيله لماهية متميزة عن الكائنات الأخرى...و مع "كانط" ستكتمل النظرة الحديثة إلى الإنسان من خلال إضفاء طابع أخلاقي على طبيعة الشخص و تصرفاته. فالإنسان في التصور الكانطي يتحدد، ليس فقط بالعقل النظري الذي يجعل منه كائنا واعيا يستطيع إنتاج معارف يقينية كما رأى "ديكارت"، بل يتحدد أساسا بالعقل العملي الأخلاقي الذي يملي عليه المبادئ الأخلاقية التي يجب عليه أن يلتزم بها، وأهم هذه المبادئ القاعدة الأخلاقية التي تدفع الإنسان إلى السعي وراء الخير المطلق عندما يعتبر نفسه و الآخرين غايات لا مجرد وسائل، وهذا ما تعبر عنه قولة "كانط": " تصرف دائما بشكل تعامل بمقتضاه الإنسانية، في شخص غيرك مثلما في شخصك، باعتبارها غاية لا وسيلة ".
قضايا و أطروحات:
المحور الأول: الشخص و الهوية
الإشكالية:
في الحياة اليومية العادية، يشعر الإنسان - بشكل حدسي مباشر- بأن له هوية واحدة تظل ثابتة و مطابقة لذاتها رغم التحولات التي تطرأ على الفرد من الناحية الجسمية أو النفسية، و عادة ما يعبر كل منا عن هذه الهوية بضمير " أنا".. و من ثم فإن التساؤل عن" الهوية الشخصية" يبدو غير ذي فائدة بالنسبة للإنسان العادي الذي تمثل لديه هذه الهوية حقيقة بديهية لا تحتاج إلى التأمل و التفكير. غير أن هذه الوحدة المزعومة تطرح أسئلة متعددة شكلت موضوع اهتمام الخطاب الفلسفي بوصفه تفكيرا قائما على وضع "البداهات" موضعا للفحص ،و مجالا فكريا تميز بجعل ماهية الإنسان موضوعا للبحث و التأمل... فما هو الأساس الذي تنبني عليه " الهوية الشخصية"؟ هل تتمثل هذه الهوية في وعي مجرد عن الإحساس / الجسد(ديكارت)؟ أم هي عبارة عن سيرورة أو عملية مرتبطة بالشعور و الذاكرة (لوك)؟ و ما طبيعة العلاقة بين الهوية و الإرادة (شوبنهاور)؟
التصورات:
تشكل الفلسفة الحديثة محطة أساسية في تاريخ الفكر البشري نظرا لما تميزت به من إعلاء لمكانة الإنسان الفرد من خلال تأكيدها على مركزية الأنا أو الذات وفعاليتها المتمثلة في القدرة على التفكير والممارسة الأخلاقية بشكل حر وفي استقلال مطلق عن كل وصاية..ومن أبرز هذه التصورات :
روني ديكارت:(1596/1650)
تعد فلسفة "ديكارت " من أهم الفلسفات التي أسست حقيقة الإنسان على "الوعي" أو العقل و جعلت منه العنصر الأساسي والجوهري في تحديد أو تفسير الماهية الإنسانية... ففي التصور الديكارتي المرتكز على حقيقة الكوجيطو، كحقيقة لا يعتريها الشك ،تبرز فكرة الوعي بالذات و بطبيعتها المفكرة التي تجعلها متميزة عن بقية الموجودات. ف"الأنا أفكر" أو الذات المفكرة هي ما يشكل الهوية الشخصية للإنسان نظرا لكونها الحقيقة اليقينية التي تتمخض عنها تجربة الشك. و بعبارة أخرى، إن الإنسان في فلسفة "ديكارت" يملك هوية جوهرها التفكير أو الوعي، وهو يدرك هذه الهوية كحقيقة واضحة و بديهية للعقل من خلال عملية الشك أو التفكير.
هكذا تقدم الفلسفة الديكارتية الهوية الشخصية للإنسان كجوهر قائم بذاته أو ككيان مكتمل البناء يتم الوعي به من خلال استبطان الإنسان لذاته ليكشف عن طبيعتها المفكرة.
ملحوظة: يقصد بفكرة "الكوجيطو"Le Cogito)) حقيقة الذات كما تصورها" ديكارت" و التي تتمثل في خاصية التفكير أو الوعي ، وعادة ما يعبر عن الكوجيطو الديكارتي بما يلي: " من الواجب أن أشك في كل شيء و لكن الشيء الذي لا يمكنني أن أشك فيه هو أنني أشك، وبما أنني أشك فأنا أفكر ، وبما أنني أفكر فأنا موجود".
جون لوك:(1632/1704)
عرف عن الفلاسفة التجريبيين رفضهم القاطع للموقف العقلاني بصدد مصدر المعرفة ..فبينما أكد العقلانيون على القيمة المطلقة للعقل، اعتبره التجريبيون مجرد صفحة بيضاء تنقش عليها التجربة الحسية معارفنا و أفكارنا. وبناءا على هذا التصور للمعرفة بوصفها نتاجا لتجربة حسية يعتبر "جون لوك" أن المعرفة التي يحصلها الإنسان حول نفسه هي نتاج لحالاته الشعورية، حيث يرى أن ما يجعل الشخص يدرك ذاته عبر أزمنة و أمكنة مختلفة هو الوعي أو المعرفة التي تتولد عن مختلف الإحساســات ( سمع/ لمس/ شم/إبصار...). وبجانب الشعور أو الإحساس كأساس للهوية الشخصية، تقوم الذاكرة بربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية و تعطي بالتالي للوعي بالذات استمرارية في الزمان.
وهكذا تكون المعرفة ،عموما، و الوعي بالذات أو الهوية بشكل خاص، رهينا بما تمدنا به الإحساسات المرتبطة بالمؤثرات الخارجية، الشيء الذي يجعل الهوية الشخصية عبارة عن سيرورة مصاحبة للشعور و الذاكرة ،لا كيانا مجردا أو ميتافيزيقيا لا يحتاج إلى الإرتباط بالعالم الخارجي كما تصوره "ديكارت".
ومن الملاحظ أن المواقف السابقة رغم اختلافها حول مصدر المعرفة أو الوعي، تبقى مشدودة إلى التصور الفلسفي التقليدي الذي يقر بالوعي كحقيقة جوهرية للإنسان و خاصية تميزه عن بقية الكائنات. و مع بروز الفلسفة المعاصرة سيتعرض هذا المنظور للنقد و التشكيك من خلا ل رفض الطابع المطلق الذي تم إضفاؤه على العقل مقابل استبعاد مكونات أخرى تنتمي إلى الجسد و الغريزة أو إلى اللا وعي.
أرثور شوبنهاور:(1788/1860)
لقد درج الفلاسفة التقليديون على النظر إلى الإنسان ككائن عاقل يمثل الوعي خاصيته الجوهرية و المصدر الوحيد لسلوكه و تفكيره، أما ما هو لا عقلي (غريزة/ جسد...) فقد كان يستبعد في إطار هذه النظرة العقلانية، الأمر الذي سيضفي على ماهية الإنسان طابعا ميتافيزيقيا متعاليا عن الطبيعة.
وبخلاف ذلك اتجهت فلسفات معاصرة إلى الكشف عن عناصر أخرى لها أثرها في السلوك الإنساني مثل الجنس و الإرادة و اللاشعور. وفي هذا السياق تندرج فلسفة "شوبنهاور" التي تقوم على نزعة تشاؤمية قوامها الدعوة إلى نبذ الحياة. فهو يرى أن المحرك الأساسي لسلوك الإنسان – تفكيرا و ممارسة – هو إرادة الحياة التي تدفع الإنسان بشكل مستمر إلى السعي وراء أهداف و غايات مختلفة يرى في تحقيقها سعادته التي سرعان ما ينكشف له طابعها الوهمي. فالتجدد المستمر للرغبة يجعل السعادة مستحيلة، و الأهداف التي يتم السعي وراءها لا يمكنها تحقيق الإشباع الكامل لنشاط الإرادة اللانهائية. و بذلك تصبح الحياة مأساة و الإرادة منبعا للألم و الشقاء... أما العقل أو الوعي فليس جوهر الإنسان، كما اعتقد "ديكارت"، فهو لا يعدو أن يكون مجرد لعبة في يد هذه القوة الجبارة التي تمثلها إرادة الحياة التي تصبح بالنتيجة جوهر الوجود الإنساني و المصدر الأساسي للوعي بالذات.
تركيب للمحور :
يتبين إذن أن الإنسان،بوصفه شخصا، يمتلك هوية ثابتة أساسها الوعي أوالشعور والذاكرة أو إرادة الحياة .. والإختلاف الملحوظ بين الفلسفات حول تحديد طبيعة الهوية الشخصية يرجع إلى تباين المنظورات المعتمدة ( نزعة عقلانية/ تجريبية/ تشاؤمية...).
المحور الثاني : الشخص بوصفه قيمة
يتأكد إذن أن الإنسان بوصفه شخصا هو ذات لها هويتها الخاصة التي تتمثل في مفهوم "الأنا" كجوهر ثابت يتحقق من خلاله وعي الإنسان بوجوده أو بذاته، و ذلك بغض النظر عن اختلاف الفلاسفة حول طبيعة و أساس هذه الهوية تبعا للمنظور المعتمد في النظر إلى ماهية الإنسان (الوعي عند العقلانيين/ الشعور و الذاكرة عند التجريبيين/ إرادة الحياة عند " شوبنهاور")...غير أن معنى الشخص يمتد أيضا إلى البعد الأخلاقي بوصفه أحد المميزات التي يختص بها الإنسان و يتسامى بها عن الموجودات الطبيعية. و اعتبار الإنسان شخصا أخلاقيا يعني توفره على وعي أخلاقي يجعله قادرا على التمييز بين الخير و الشر،و على الإلتزام في سلوكه العملي بالمبادئ الأخلاقية مما يجعله مسؤولا عما يصدر عنه من أفعال.. فعلى ماذا يتأسس البعد الأخلاقي للشخص؟ و هل ترجع القيمة الأخلاقية إلى ما يميز ذاته في استقلال عن الغير أم إلى علاقاته مع الآخرين داخل المجموعة البشرية؟
إيمانويل كانط :(1724/1804)
لقد اعتبر "كانط" أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في توفره على عقل عملي أخلاقي يكون منبعا لتصرفاته، وهو عقل حامل لقواعد أخلاقية تتخذ صفة الواجب أو الأمر المطلق. و ينتج عن الإلتزام بهذه القواعد إضفاء كرامة داخلية مطلقة على الشخص الذي يصبح بفضل ذلك غاية في ذاته ،و ليس مجرد وسيلة لتحقيق غاياته الخاصة أو غايات الآخرين.
هكذا فقيمة الإنسان في تصور "كانط "لا تنبني فقط على ما يمتلكه من قدرة على الفهم( الوعي بالمعنى الديكارتي)، بل تتأسس قيمته على تكوينه الأخلاقي الذي يجعل كل فرد موضوع احترام و تقدير سواء من طرف ذاته أو من قبل الآخرين. فعندما يخضع الإنسان للأمر المطلق يتجاوز كينونته الطبيعية و يصبح شخصا تتجاوز قيمته كل سعر لكونه يمثل "غاية" و ليس مجرد وسيلة كبقية الموجودات أو الأشياء.
وما يلاحظ حول التصور الكانطي هو طابعه المثالي الذي يقدم صورة مجردة أو ميتافيزيقية عن الإنسان، وذلك لأن غاية فلسفة "كانط" هي الدفع بالإنسان إلى تجاوز الغايات النفعية العملية التي تجعل منه مجرد وسيلة و تضفي عليه قيمة خارجية نفعية نحو الغايات الإنسانية التي يجسدها الواجب المطلق، والتي تضفي على الإنسان قيمة داخلية مطلقة تجعل منه غاية في ذاته.
جورج غوسدورفGusdorf :(1912/2000)
قدمت الفلسفات الحديثة( ديكارت/ كانط مثلا) صورة مجردة عن الإنسان قوامها النظر إليه كذات تتوفر على ماهية مطلقة و قبلية لا تتأثر بالاختلافات الفردية أو الجماعية . و هي صورة يتعذر على الإنسان العادي أن يجد نفسه فيها بسبب طابعها المثالي الذي لا يتلاءم مع الوجود الواقعي للإنسان كفرد يتأثر بالآخرين و بالمجتمع، وتفرض عليه حياته المعيشية طابعا نسبيا.
ولذلك تعرض هذا المنظور الفلسفي للنقد مع بروز فلسفات معاصرة( القرن 19 و 20) اتجهت نحو التركيز على البعد الواقعي لوجود الإنسان محاولة فهم حقيقته في إطار التجربة المعيشية أو الواقعية . من هنا سنجد في الفلسفة المعاصرة اهتماما بالكشف عن الأبعاد أو المقومات التي تم استبعادها في التصورات السابقة ( الغريزة و الرغبة و الجسد/ العلاقة مع الغير و المجتمع...). و في هذا السياق يندرج رأي الفيلسوف الفرنسي "غوسدورف" حول قيمة الشخص. فهو يؤكد على أن فكرة الإنسان المستقل بذاته، كما تجسدت في الفلسفة الحديثة من خلال الذات المفكرة(ديكارت) أو الشخص الأخلاقي(كانط)، هي فكرة مثالية لا تستقيم مع طبيعة الوجود الواقعي للإنسان.
فالإنسان لا يعيش في عزلة مطلقة أو في حالة استكفاء يستغني فيها عن الآخرين، بل يرتبط وجوده بعلاقات التضامن و المشاركة و الإنفتاح على الغير. وبمعنى آخر، يرى"غوسدورف" أن قيمة الإنسان الأخلاقية لا تنبع من كونه فردا يعي ذاته في استقلالها المطلق عن الآخرين، بل تتحدد هذه القيمة في كونه شخصا يكتمل من خلال علاقته بالآخرين على أساس المشاركة و تقبل الغير. فالكمال الأخلاقي للشخص لا يتحقق إلا في علاقات التعايش داخل المجموعة البشرية، و مدى استعداد الذات للإنفتاح على الغير و الدخول معه في أشكال مختلفة من التضامن الذي يبرز الماهية الأخلاقية للإنسان.
تركيب للمحور :
هكذا يتبين أن البعد الأخلاقي يمثل أحد المقومات الأساسية لمفهوم الشخص، بحيث يستحيل التفكير في هذا المفهوم دون استحضار هذا البعد. ورغم أن التفكير في أساس أو منبع هذا البعد الأخلاقي يكشف عن تنوع الإجابات أو المقاربات، فإنها تكشف ،في النهاية،عن تعدد مستويات النظرة إلى حقيقة الإنسان. و من ثم فالإختلاف بين المنظور الحديث الذي يؤسس الوعي الأخلاقي على مستوى ذاتي تمثله فكرة الشخص الأخلاقية عند "كانط" ، وبين المنظور المعاصر الذي يتجه نحو التركيز على البعد العلائقي للإنسان كأساس لتكوينه الأخلاقي عند "غوسدورف"، هو اختلاف يجد تفسيره في طبيعة المنطلقات الفكرية لكل منظور. المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية
لقدتم النظر إلى الإنسان في إطار الفلسفة التقليدية(من أفلاطون إلى ديكارت و كانط) نظرة ميتافيزيقية أساسها اعتبار الذات الإنسانية متميزة و متعالية عن بقية الموجودات بفضل ما تختص به من وعي و إرادة و حرية و مسؤولية. فالفيلسوف التقليدي لم يكن يرى في ماهية الإنسان سوى ما يجعلها تستبعد كل عنصر طبيعي مقابل الوعي و الإرادة(نجد ذلك مثلا في تصور "أفلاطون" حول خلود النفس، وعند "ديكارت" في فكرة الكوجيطو، و في فكرة العقل الأخلاقي عند "كانط").
غير أن هذا التصور سيبدأ في التراجع أمام تبلور نظرة علمية اتجهت نحو إنزال الإنسان من سمائه الوهمية لكي تربطه بجذوره الطبيعية أولا(علوم الطبيعة)، وبالشروط النفسية والإجتماعية لاحقا(العلوم الإنسانية).. فلم يكن من اللازم انتظار ولادة العلوم الإنسانية لكي تنكشف فكرة الحتمية أو الضرورة التي تتحكم في وجود الإنسان في الخطاب العلمي، بل نجد أن العلوم الطبيعية قد افتتحت هذا الدرب من خلال ما خلقته نظرياتها الفلكية(كروية ودوران الأرض مع "كوبيرنيك") و الفيزيائية (الجاذبية مع "نيوتن") و البيولوجية (نظرية تطور الأنواع مع "داروين") من انقلاب في تصور الإنسان لذاته، حيث أصبح ينظر إليه كجزء من الكون يخضع، مثل بقية الأشياء، لتأثير القوى الطبيعية بعد أن كان ينظر إليه ،في التصور السابق، كسيد لهذا الكون.
ومع بروز العلوم الإنسانية(القرن 20) ستترسخ هذه النظرة الحتمية إلى الإنسان الذي سيصبح بمثابة بنية نفسية و اجتماعية تحددها عوامل خارجية ومستقلة عن إرادة الفرد و رغبته..فمن زاوية نظر التحليل النفسي(فرويد) يكون البناء النفسي للفرد نتيجة حتمية لخبراته الطفولية التي تكون مصدرا لنشأة عقد نفسية نتيجة كبت رغبات الطفل خلال مسلسل النمو النفسي و الجنسي( المرحلة الفمية....)، وهو ما يعني أن معظم السلوكات التي تصدر عن الفرد تحركها دوافع لا شعورية ذات طبيعة جنسية.. وبالإضافة إلى هذه الحتمية السيكولوجية، نجد علماء الاجتماع و الأنتروبولوجيا يؤكدون على دور الشروط السوسيو ثقافية في تحديد شخصية الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية التي يتم بواسطتها ترسيخ قيم ومبادئ المجتمع في شخصيات أفراده، بحيث ينتج عن ذلك وجود نمطين متداخلين من الشخصية عند كل الأفراد، أحدهما يعكس القيم العامة و المشتركة لثقافة المجتمع (الشخصية الأساسية)، و الآخر يعكس الخصائص التي يستمدها الفرد من انتمائه الجنسي والمهني والإجتماعي (الشخصية الوظيفية)؛ كما أن الأحكام الفكرية والأخلاقية التي يتبناها الأفراد في حياتهم اليومية هي نتاج لأثر"الضمير الجمعي" الذي يمثل سلطة أخلاقية و اجتماعية يتم ترسيخها لدى الأفراد عن طريق التربية و التعليم. و بذلك تصبح شخصية الإنسان مرآة تنعكس فيها طبيعة الثقافة التي تميز مجتمعه، الشيء الذي يؤكد وجود حتمية اجتماعية وثقافية تفقد الإنسان كل سلطة أو نفوذ على ذاته ... و بسبب تمسك النظرة العلمية بهذا التفسير للسلوك الإنساني ، والذي يقوم على نفي حرية و فعالية الفرد أمام البنيات النفسية والإجتماعية، اعتبر بعض الدارسين أن هذه النزعة العلمية هي نزعة لا إنسانية لكونها تؤدي إلى اختفاء أو موت الذات أمام الحضور القوي للعوامل النفسية والبنيات الإجتماعية الخارجية.
وأمام هذه النزعة الحتمية التي ميزت الخطاب العلمي حول الإنسان، برزت اتجاهات فلسفية معاصرة تحاول إعادة الإعتبار للذات الحرة والفاعلة التي تم إقصاؤها في سياق المقاربة العلمية.. فالفلسفة الوجودية ،مثلا ،دافعت بشكل كبير عن حرية الفرد رافضة خضوعه لأية سلطة خارجية تتمثل في المؤسسات (الأسرة/ المجتمع / الدولة/ الحزب...). و المبدأ الأساسي الذي ارتكزت عليه الفلسفة الوجودية هو اعتبار أن "وجود الإنسان يسبق ماهيته"، وذلك بخلاف الأشياء أو الحيوانات التي تتحدد ماهيتها بشكل قبلي سابق على وجودها. فالإنسان بالنسبة ل"سارتر" هو الكائن الوحيد الذي يوجد و هو غير حامل لأية صفات أو ماهية قبلية ،بل بالعكس، فهو يكون في البدء عبارة عن لاشيء، ثم يشرع في تأسيس ذاته وفق ما تقتضيه مشيئته أو إرادته. فعلى عكس الطاولة أو الحيوان اللذين يتخذ وجودهما شكلا خطيا انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإن الإنسان يفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو تحديد شخصيته على نحو قبلي مسبق.
ونتيجة ذلك أن الإنسان يعتبر "مشروعا" لا يعرف الإكتمال لأنه يتحدد بما يختار القيام به، مما يجعل تعريفه بشكل نهائي غير ممكن. فما يميز الإنسان كشخص هو قدرته على تحديد ذاته و مصيره بنفسه كما يتضح من قولة "سارتر": "البطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا، والجبان هو الذي يجعل من نفسه جبانا".
ورغم أن الإنسان يتعرض لإكراهات موضوعية تتولد من سلطة البنيات النفسية و الإجتماعية، كما تثبث ذلك العلوم الإنسانية ، فإن ذلك لا يعني - عند الوجوديين - فقدانا للحرية الذاتية والقدرة على الإختيار. فليست الشروط الموضوعية والإكراهات الخارجية سوى تحديات أمام قدرة الإنسان على تجاوزها أو التعالي عليها من خلال طبيعة اختياراته. فالصخرة مثلا تمثل عائقا موضوعيا قد يمنعني من مواصلة السير، غير أن ما أختار القيام به هو الذي يمنح المعنى لموقف الإنسان و يكشف عن حريته، ذلك أنني قد أعمد إلى إزاحة الصخرة لمواصلة الطريق، أو قد أصعد فوقها لمشاهدة منظر معين.. فالإختيار الحر هو الذي يحدد موقف الإنسان في علاقته بالشروط الخارجية التي قد تعوق حريته.
وعموما فقد تميزت الفلسفة الوجودية بإضفاء طابع فردي و متغير على ماهية الإنسان، وذلك بناءا على تأكيدها بأن جوهر الإنسان هو قدرته على الإختيار الحر، الشيء الذي يجعل ماهية الإنسان غير قابلة لتحديد قبلي أو نهائي نظرا لانفتاحها المستمر على إمكانيات متعددة.
وفي سياق الفلسفة " الشخصانية" التي تؤكد على القيمة المطلقة للشخص بوصفه الكائن الأسمى في الكون، تتحدد مكانة الإنسان في سياق علاقته بالغير و بالإنسانية ككل. فالشخص لا يحقق حريته إلا في إطار ما يسميه أقطاب هذه الفلسفة " بالتشخصن" الذي يعني خروج الذات من فرديتها وعزلتها لتنفتح على العالم طبقا لنداء الإنسانية الذي يقتضي من الشخص الدخول مع الغير في علاقة قوامها التواصل و المشاركة. فالحرية ،في منظور الشخصانيين، تبقى حرية مشروطة بالإنفتاح على الغير أو حرية منظمة أساسها الإلتزام باحترام الغير والقيم الإنسانية. و هذا ما يعبر عنه "مونييه" كممثل للشخصانية في الفكر الفرنسي، حيث يؤكد على ضرورة ربط حرية الشخص بالشروط الواقعية التي تجعل الإنسان لا يحقق حريته إلا في إطار الخروج من الذات الفردية نحو الإلتزام بمصير الآخرين. ويندرج موقف "م-ع- الحبابي" في هذا المنظور، حيث يؤكد على أن مفهوم الإنسان لا يتحقق إلا عبر التحرر من وضعية الكائن إلى الشخص(التشخصن) إذ تكون أفعاله صادرة عن وعي قصدي يستهدف الإستجابة لنداء الإنسانية والإنخراط في خدمة قضاياها ومصيرها. فبهذا الفعل الإرادي القصدي الذي يتجه نحو خدمة الإنسانية يحقق الشخص حريته ويتجاوز وجوده الفردي ككائن.
وهكذا يتبين أن الشخص يتحدد - من منظور هذه الفلسفات المعاصرة - ككائن مريد و حر، سواء كانت حريته تتجه نحو الإستجابة للنوازع الفردية و الإختيارات الذاتية كما يرى الوجوديون ، أو كانت حرية مرهونة بالإنفتاح على الغير في إطار التضامن و المشاركة كما يرى الشخصانيون.
تركيب إجمالي:
يتبين أن مفهوم الشخص يحمل طابعا إشكاليا لكونه يثير العديد من القضايا التي تختلف بصددها التصورات أو الخطابات الفلسفية( الهوية/ البعد الأخلاقي/ الحرية...) .و هو مفهوم يشير إلى جملة من الخصائص التي أكدت عليها مختلف المقاربات مثل الوعي بالذات و المسؤولية الأخلاقية و حرية الإرادة..وهذا المعنى الذي درجت عليه التصورات السابقة أصبح،في الوقت الراهن، يكشف عن حدوده في ظل التحولات التي تشهدها الحياة البشرية. فانطلاقا من الجدال الراهن حول العديد من القضايا ذات الصلة بحقوق الإنسان والطبيعة (الإجهاض – الموت الرحيم – حقوق الطبيعة وكرامة الحيوان..) أخذ مفهوم الشخص يميل نحو التوسع بغاية استيعاب ما يتعدى دائرة الإنسانية (الدفاع عن حقوق بيئية أو حيوانية..)، أو ما كان يلحقه التهميش ضمن دائرة الإنسانية نفسها بسبب التأكيد على الوعي والأخلاق (إدخال الجنين والرضيع والمجنون والمعوق ضمن مفهوم الشخص..).
تعليقات